وَفَاءُ أُمٍّ
مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَادَتْ" زَهْرَةٌ " إلى كُوخِهَا الرِّيفيِّ , وَقَدْ حَمَلَتْ وردةً زَاهِيَةً , احْتفظَتْ بِهَا لِتُقَدمهَا ِفي الغدِ تَِذْكَارًا لابْنهَا الوَحيدِ احتفاءً بِرُجُوعِهِ إليهَا , بعْد عَامٍ مِنَ الغيابِ .
لَكِنَّهَا مَا كَادَتْ تَلِجُ دَارَهَا حَتَّى تَهَاوَتْ عَلَى الأَرْضِ فَزِعَةً مُضْطَرِبَةً , كَقَشَةٍ أَوْقَعَتْهَا الرِّيَاحُ فَما كَانَ ِمنْهَا إلاَّ أَنْ ضمَّتْ إلَى صَدْرِهَا الوَرْدَةَ المُبَلَّلَةَ بِالدُّمُوعِ , وَبِصَوْتٍ اخْتَنقَ بالبكاءِ صَرَخَتْ : آهٍ وَلَدِي !آهٍ حَبيبِي ! .
ِإذْ ذَاكَ فَقَطْ , وَبِقٌوَّةِ تلكَ الكلماتِ العذبةِ , َرفَعتْ رَأْسَهَا للسَّمَاءِ ثُمَّ نَهَضَتْ متثَاقِلَةً عَلَى قَدَمَيْهَا الصغيرتَينِ , بَعْدَ أَن لَملَمتَ أَطْرَافَ جسمِهَا المُرْتَعِشِ , وقَدْ ضمَّتْ كِلْتَا يَدَيْهَا إلَى بَطْنِهَا , لِتطْمِئنَّ إلَى طِفْلِهَا الذِّي لاَ يَزَالُ فِي أَحْشَائِهَا .
كَمْ كَانَ المَشْهَدُ لافتا ! وكَمْ ازْدَادَ رَوعةً علَى رَوعةٍ حينَ تَشَبَّثتْ بِوَرْدَتِهَا الفَاتِنَةِ الَّتِي كَانَتْ بيْنِ أصَابِعهَا المُلْتَصِقَةِ ببطنِهَا المُنتفخِ .
وبَيْنمَا هِيَ كَذَلِكَ أشْرَعَ الجُنُودُ العَشَرَةَُ الَّذِينَ أحَاطُوا بِهَا أسْلِحَتَهُم القَذِرَةَ فِي وَجْهِهَا . فَمَا كَانَ مِنْهَا إلا
أنْ جَثَتْ عَلى رُكْبَتَيْهَا , وَرَفَعَتْ يَدَيْهَا للسَّّمَاءِ , وَبِنَبْرَةِ المُؤْمِنِ المُطْمَئِنِّ رَاحَتْ تَدْعُو فِي ضَرَاعَةٍ وَخُشُوعٍ : <<إلَهِي.... امنحْ طِفْلِي الحَيَاةََ ...>> , وَأثنَاءَ تَرْدِيدِهَا اللاَّمُنقطِعِ لتَرْنيمِتَهَا هَذِهِ هَوَى عَلَيهَا أَحَدُهُمْ بِِسِكِّينَةٍ حَادَّة الطَرَفِ , لِيَبْترَ يَمينَهَا التِّي كَانَتْ الوَرْدَة ُالجَميلَةُ عَالِقَةً بَيْنَ أَنَامِلَهَا , وبَقِيتْ كَذَلكَ ,
ثُمَّ مَا لَبِثَتْ أَنْ انْطَرَحَتْ يُسْرَاهَا أَرْضًا بَعْدََ أَنْ فَاجَأَهَا آخَرٌ بِضَرْبََةٍ ثَانِيَةٍ منْ وَرَاءِ ظَهْرِهَا , وهِيَ لا تَزََالُ هَائِمَةً مُستغْرِقَةً فِي مُنَاجَاةِ رَبِّهَا . مُسَرْبَلَةً بالدَّم وَالدُّمُوعِ , وإذْ هِيَ عَلى حَالِهَا , انْحَنَى ثَالِثٌ , وَطَوَّقَ رَأْسَهَا بِيَدَيْهِ الغَلِيظَتَينِ , وَأَوْمَأَ لِصَاحِبِهِ أنْ اقْطَعْ لِسَانَ زَوْجَةِ الشَّهِيدِ التِّي ذَكَرَتَْنَا بِسُوءٍ ,
وَبَعْدَمَا تَمَّ لَهمْ مَا أرَادُوا , سَحَبُوا الأرْمَلَةَ مِنْ شَعْرِهَا الأسْوَدِ المُخَضَّبِ بالحِنَّاءِ إلَى جِوَارِ البِئْرِ مُضَرَّجَةً بِدمَائِهَا , وعَلى الرَّغْمِ مِمِّا انتَابَهَا مِنْ آلامٍ , أسْفَرَ ثَغْرُهَا عَن ابْتِسَامَةٍ خَافَتةٍ , حينَ أَدْرَكَتْ
أَنَّ مَوْعِدَ ارتِيَادِ جَنِينِهَا للحَيَاةِ قَدْ آنَ .
َوعِندئذٍ استَجمعََتْ شتَاتَ قِواهَا الخَائِرَةِ , وأطْبَقَتْ أسْنَانَهَا اللؤلُؤيَّةَ التِّي التَمَعَتْ فِي ضِيَاءِ البَدْرِ , وعَضَّتْ عَلَى طَرَفِ الحَبْلِ المُتَدَلِي مِنْ حَافَّة البِئرِ , وفِيما كانَتْ تجْذِبهُ بِكُلِّ مَا أُوتِيَتْ مِن قُوَّةٍ كَانَ العَرَقُ يتصَبَّبُ عَلى وَجْنَتَيْهَا الوَرديتَين دُون انقطَاعٍ وَنبَضَاتُ قلبِهَا تَتَزَايَدُ باطِّرَادٍ..... كَادَتْ تَفْتُرُ لكِنَّ طَيْفَ وَلَدِهَا الخَاطِرِ بَيْنَ الفَيْنَةِ والأخْرَى ,حَبَسَ عَنْهَا ذَلكَ , ومَا هِيَ إلا لَحَظَاتٌ حَتَّى وُلدَ الصَّبَيُّ آيةٌ فِي الحُسْنِ والجَمَالِ, لَثَّمَتْهُ المِسْكِينَةُ بِشَفتَيهَا المُرتَعِشَتَينِ , وقَد ضَمَّتهُ لصَدرِهَا بِمَا تَبَقَّى مِنْ ذِرَاعَيْهَا ,وَهِيَ تُغَمْغِمُ تَارَةً , وَتَرْنُو إلى مُحَيَّاهِ البَاسِمِ تَارَةً أُخْرَى .
بَعدَ حينٍ , انتَفَضَتْ في مَكَانِهَا , مُرتَعِدَةً , مُرْتَجِفَةً , حَائِرَةً و تلمَّسَت صَدْرَهَا فِي لُطْفٍ ... فِي البِدَايَةِ وَجَدَتْ مَشَقَّةً كَبِيرَةً فِي إرْضَاعِ صَغِيِرِهَا إذْ بََدأتْ تفقدُ المَقْدِرََةَََ عَن القِيامِ بِأَيِّ حَرَكَةٍ , وَصَارَتْ أنْفَاسُهَا فَاترَةً مُتقَطِّعةً , تَغْمُرُهَا الحَسَرَاتُ , فَبالكَادِ سَيْطَرَتْ عَلى أوْصَالِهَا المُرْتَعِشَةِ الغَارِقَةِ فِي بِرْكَة دِمَاءٍ .
وعَلَى إثْرِ ذَلكَ , وَفَّرَتْ مَا يَكْفِي مِنْ إرَادَةٍ واستِطَاعَةٍ , حينَمَا أَدْرَكَت أنَّ شفَتَي رَضِيعِهَا قَد انطَبَقََتَا
بإصْرَارٍ علَى حَلَمَةِ ثَديِهَا الجَامِدِ الذِّي غَسَلَتْهُ الدِّمَاءُ والعَبَرَاتُ , فَدَرَّ الحَليبُ خَالصًا سَائغًا , لِيَتَغَذَّى الصَّغيرُ , فِيمَا كانَتْ تُهَدْهِدُهُ في حِجْرِهَا , ولمْ يَكُنْ ليَكُفَّ عَنْ الرَّضْعِ ويَنفَصِلَ عَن جَسَدِهَا مِنْ تِلْقَاءِ
نَفْسِهِ لَو لَمْ يَغْمُرْهُ الُّنعَاسُ .
ومَا كَان نَوْمُ الصَّبِيِّ ليَقْطَعَها عَن الانشِغَال بِهِ ويَصْرِفَهَا للالتفَاتِ لِمَا حََّل بِهَا ,ففِي غُضُونِ ذَلكَ
سَحَبَتْ وِشَاحَهَا البَالِيَ مِنْ عَلَى مَنْكِبَيْهَا بَعْدَ أن فَكَّتْ عُقْدَتهُ بأَسْنَانِهَا , ولفَّتْ بِهِ جِسْمَ ابنِهَا الطَّاهِرِ ,
تَمَامًا , كَمَا تَفْعلُ أيُّ أمٍّ رَؤُومٍ .
يَََََََا لَََََََََََلأَسَى !
أَلَمْ يئِنْ لأعْدَاءِ الحَيَاة أنْ تَخْشَعَ قُلُوبَهُم أمَامَ هَْولِ مَا تَصْنَعُ أيْدِيَهُم؟ !
فَهَا قَدْ استَجَابَ التِسْعَةًُ لرَغْبَةِ عَاشِرِهِم , الذِّي دنَا مِنَ الأمِّ الوَاهِنَةِ التِّي انْحَنَتْ عَلى وَلِيدِهَا , وانْتَزَعَهُ مِنَْها فِي غَطْرَسَةٍ وَعَجرَفَةٍ , غَيْرَ آبِهٍ بِعَيْنَيْهَا الضَّارِعَتَيْنِ ,وَلا بِِصَمْتِهَا المُفْعَمِ بالأسْرَارِ
وفِي بُرُودَةِ دَمٍ , وَسَْطَ قَهْقََهَاتٍ صَاخِبَةٍ ,َوضَعَهُ فِي الدَّلْوِ وََتَرَكَ الحَبْلَ يَنَْزَلِقُ بِحُريَّةٍ عَلى البَكَرَةِ , لِيَهْوِيَ الصَّبِيُّ شَيْئًا فَشَيْئًا إلى جَوْفِ الجُبِّ العَمِيقَةِ ذَاتِ الغَيَاهِبِ الحَالِكَةِ ,وانْصَرَفُوا مُتَلَذِّذِينَ بِمَا
صَنَعُوا , وبِمَا كَان يَصِلُ أسْمَاعَهُم مِنْ صَرَخَاتٍ لَمْ تَتِمَّ .
ولمَّا لَمْ يَعُد بِوسْعِ " زهْرَةَ َ" سَمَاعُ جَلَبَةِ الأشْرَارِ , زَحَفَت عَلى بَطْنِهَا تِجَاهَ البِئرِ مِثْلَمَا يَحْبُو الوَليدُ نَحْوَ أمِّهِ مُتَحَسِّسَةً طَرَفَ الحَبلِ بِكِلتَا ذِرَاعَيْهَا النَّازِفَتَيْنِ , وَقَدْ كَلَّ بَصَرُهَا , وَشَحَبَ وَجْهُهَا , وبَعْدَ مُحَاوَلَةٍ دَائِبَةٍ , أحَاطَتْهَا العِنَايَةُ الإلَهِيَّةُ استَطَاعَتْ انتِشَالَ صَغِيرِهَا مِن بَرَاثِنِ المَوْتِ المُحدِقِ , ومَعَ تَبَاشِيرِ الفَجْرِ كَانَ ابنُهَا المُنتَظِرُ عِنْدَ عَتَبَاتِ المَنزِلِ ومَا كادَ يَرَى يَدَي أمِّهِ المَرْمِيَّتَيْنِ هُنَاكَ واللَّتَيْنِ طَالَمَا التَفَّتَا حَوْلَ صَدْرِهِ وَرَبَّتََـتَا عَلى شَعْرِهِ , وقَدَّمَتَا لهُ الطَّعَامَ والشَّرَابَ والحَلْوَى حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَاهُ
بِالدَّمْعِ وَامتَلأتْ رُوحُه غَمًّا , لكِنَّ نَفْسَهُ الشَّهْمَةَ أبَتْ أنْ تَرُدَّ هَدِيَّةَ أعَزَّ حَبِيبَةٍ , فَمَا كانَ مِنْهُ إلاَّ أنْ جَثَا أمَامَ يَدَي أمِّهِ وأمْطَرَهُمَا لَثْمًا وتَقْبِيلاً , ثُمَّ لفَّهُمَا فِي مِنْدِيلٍ أخْرَجَهُ مِن جَيبِهِ , بَعْدَمَا احْتَفَظَ بِالوَرْدَةِ المُتَقَاطِرَةِ بِالدِّمَاءِ العَابِقَةِ مِسْكًا وعِطْرًا .
إذْ ذَاكَ فَحَسْب , عَلِمَ ألاَّ مَفَرَّ مِمَّا سَطَّرَتُْه أقْلامُ القَدَرِ , فَقَامَ عَلى التَّو , وَأجَالَ بَصَرَهُ فِي أرْجَاء المَكَان الذِّي خَيَّمَ عَليهِ صَمْتٌ رَهِيبٌ , ثُمَّ مَا لبِثَ أنْ أرْسَلَ صَرْخَةً مُدَوِّيَةً , وَهُوَ يَنْتَفِضُ كَعُصْفُورٍ جَرِيحٍ وَهَبَّ مُسْرِعًا , وبِكُلِّ مَا آتَاهُ الله مِن حَوْلٍ , جَذَبَ الحَبْلَ مِنْ وَسَطِهِ وَلِسَانُهُ تَهْلِيلٌ وتَسْبيحٌ وتَكْبِيرٌ عَلَّهُ يَحْظَى سَرِيعًا بِمُتْعَةِ لِقَاءِ أخِيهِ الذِّي كَانَتْ عَينَاهُ العَسَلِيَتَانِ تَزْدَادَانِ بَرِيقًا كُلَّمَا ارْتَفَعَ الدَّلْوُ أكْثَرَ بَينَمَا كَانَتْ نِهَايَةُ الحَبْلِ الأُخْرَى بَيْنَ أسْنَانِ الأمِّ التِّي زَمَّتَْ فَمَهَا بإحْكَام ٍ. بقلم الشاعر و الكاتب عبد الباسط فرجان